إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل الأنبياء والمرسلين، ومحبته واجبة على كل من يؤمن بالله واليوم الآخر؛ محبة لا إفراط فيها ولا تفريط، وهكذا أمر صلى الله عليه وسلم.. هذا ما بينه الشيخ، وذكر أنه لابد من اتباع سنته صلى الله عليه وسلم حتى يعود للأمة عزها ومجدها وصلاحها، ثم ذكر فضل الصحابة وآل البيت، وفضل الصلاة والسلام عليه صلى الله عليه وسلم.
أهمية معرفة سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم
الحمد لله مَنَّ على هذه الأمة ببعثة خير البرايا، وجعل التمسك بسنته عصمة من الفتن والبلايا، أحمده تعالى وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وأسأله الثبات على السنة والسلامة من المحن والرزايا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له عالم السر والخفايا، والمطلع على مكنون الضمائر والنوايا، وأشهد أن نبينا وحبيبنا وقدوتنا وسيدنا محمداً عبد الله ورسوله كريم الخصال وشريف السجايا، والمجبول على معالي الشمائل والمعصوم من الدنايا، عليه من الله وعلى آله وأصحابه وأتباعه أفضل الصلوات وأزكى التسليمات وأشرف التحايا.
أما بعد:
فيا عباد الله: اتقوا الله تبارك وتعالى، فإن تقواه سبحانه وصيته للأوائل والأواخر، وبها تسمو المشاعر، وتحيا الضمائر، وبها النجاة يوم تبلى السرائر.
أيها المسلمون: إن المتأمل في تاريخ الأمم والحضارات يجد أنه ما من أمة زخر تاريخها بالعظماء كهذه الأمة؛ أمة محمد صلى الله عليه وسلم، كما يرى الناظر في سير عظماء التاريخ، وصناع المجد وبناة الحضارة أن الشخصية الفذة -بلا منازع- التي تتضاءل عند عظمتها عظمة كل عظماء البشرية هي شخصية الحبيب المصطفى، والرسول المجتبى؛ أبي القاسم محمد بن عبد الله بن عبد المطلب الهاشمي القرشي صلوات ربي وسلامه عليه.. حبيب القلوب، والمبلغ عن علام الغيوب، بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم، فأعظم به من نبي! وأكرم به من رسول!
فأعظم منه لم تر قط عينٌ وأعظم منه لم تلد النساءُ
وسيرته العطرة بما فيها من شمائل نبوية، ومعجزات محمدية، ووقائع مصطفوية، كلها معينٌ وينبوعٌ صافٍ متدفق، يرتوي من معينه ويستقي من رحيقه كل من أراد السلامة من لوثات الوثنية ، والنجاة من آصار الجاهلية، بل هي الشمس الساطعة، والسنا المشرق المتلألئ، والمشعل الوضاء، والنور المتألق الذي يبدد ظلمات الانحرافات: قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ [المائدة:15] يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [المائدة:16].
معاشر المسلمين: إن حاجة الأمة إلى معرفة سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم والاقتباس من مشكاة النبوة فوق كل حاجة، بل إن ضرورتها إلى ذلك فوق كل ضرورة، وستظل السيرة العطرة الرصيد التاريخي والمنهل الحضاري، والمنهج العلمي والعملي الذي تستمد منه الأجيال المتلاحقة، من ورثة ميراث النبوة وحملة مشاعل الهداية زاد مسيرها، وأصول امتدادها، وعناصر بقائها، فكل من يرجو الله واليوم الآخر يجعل الرسول صلى الله عليه وسلم قدوته، والمصطفى عليه الصلاة والسلام أسوته: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً [الأحزاب:21].
وأهل الإيمان الحق عبر العصور يستمدون من الهدي النبوي منهاج حياتهم، فلا يستقيم السبيل إلا بذلك، فبهديه عليه الصلاة والسلام يهتدون، وعلى ضوء سنته يسيرون، ومن معين نبوته يرتوون، ولأعلام هدايته يحملون، وتحت لوائها ينضوون.. أسقطوا الرايات المشبوهة، ودحضوا الشعارات الزائفة، ولم يرفعوا إلا شعار التوحيد والمتابعة، عليه يحيون، وعليه يموتون، وفي سبيله يجاهدون، وعليه يلقون الله رب العالمين.......
إشارات إلى أهم الجوانب من سيرته صلى الله عليه وسلم
أمة الإسلام! أحباب سيد الأنام عليه الصلاة والسلام: ولد صلى الله عليه وسلم في هذه البقاع الشريفة، وكانت ولادته إيذاناً ببزوغ فجر الحق وأفول شمس الباطل..
ولد الهدى فالكائنات ضياءُ وفم الزمان تبسمٌ وثناءُ
الله أكبر! إنه ضياء الحق والإيمان أشرق على الدنيا فبدد ظلام الجاهلية، وقضى على معالم الشرك والوثنية ، وارتقى بالإنسانية إلى آفاق الحرية الشرعية، وقمم أمجادها الحضارية التي لم تشهدها على امتداد تاريخها.. وبين تلك الربى والبطاح نشأ وترعرع عليه الصلاة والسلام، ودرج مدارج الصبى محفوظاً بحفظ الله من أرجاس الوثنية ولوثات الجاهلية.. نشأ يتيماً تكلؤه عناية الله، وعندما بلغ الأربعين من عمره الشريف أكرمه الله بحمل الرسالة، وبعثه إلى كافة الناس بشيراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً.
وكم لقي في سبيل تبليغ دعوة ربه من الأذى، فصبر وصابر، وجاهد وثابر.. ثلاثٌ وعشرون سنة لم تلن له قناة، ولم يفتر عن تبليغ رسالة الله.. أيده الله بالمعجزات الباهرة، والآيات الظاهرة، والحجج القاهرة، وجبله على أكرم سجية، وخصه بأفضل مزية، عليه من الله أفضل صلاة وأزكى سلامٍ وتحية.. وهبه من الأخلاق أعلاها، ومن المكارم أزكاها، ومن الآداب أفضلها وأسناها، وحسبكم بما وصفه ربه بقوله سبحانه: وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4].
وعندما اشتد أذى خصومه له في مكة أذن الله له بالهجرة إلى المدينة ؛ طيبة الطيبة، قاعدة الدعوة، ومنطلق الرسالة، ومأرز الإيمان، وأساس دولة الإسلام، فأعلى راية الجهاد والدعوة إلى الله حتى انتهت بعز الإسلام ودخوله صلى الله عليه وسلم مكة فاتحاً، ودخل الناس في دين الله أفواجاً، وبعد حياة حافلة بجليل الأعمال وكريم السجايا والفعال، توفاه الله عز وجل، ولحق بالرفيق الأعلى بعد أن بلغ البلاغ المبين، وأنار الطريق للسالكين، فجزاه الله عن أمته خير ما جزى نبياً عن قومه، وصلوات الله وسلامه عليه دائماً وأبداً إلى يوم الدين.
تلك يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم إشاراتٌ إلى أهم الجوانب في شخصية وسيرة المصطفى عليه الصلاة والسلام، التي لم تكن غائبة يوماً ما عن سلوك محبيه، رفع الله ذكره، وأعلى في العالمين قدره، وجعل الذلة والصغار على من خالف أمره.......
محبة النبي صلى الله عليه وسلم بين الإفراط والتفريط
إخوة الإيمان: ولم تكن حاجة الأمة في عصرٍ ما إلى معرفة السيرة العطرة معرفة اهتداءٍ واقتداء أشد إليها من هذا العصر الذي تقاذفت فيه الأمة أمواج المحن، وتشابكت فيه حلقات الفتن، وغلبت فيه الأهواء، واستحكمت الزعوم والآراء، وواجهت فيه الأمة ألواناً من التحديات، وصنوفاً من المؤامرات، من قبل أعداء الإسلام على اختلاف مللهم ونحلهم، يتولى كبر ذلك من لعنهم الله وغضب عليهم، وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت، من اليهود الصهاينة، ويوالي مسيرتهم دعاة التثليث وعباد الصليب، ويشد أزرهم المفتونون بهم، والمتأثرون بصديد أفكارهم وقيح ثقافاتهم من أهل العلمنة ودعاة التغريب.
ويزداد الأسى حينما يجهل كثيرٌ من المسلمين حقائق دينهم، وجوهر عقيدتهم، ويسيرون مع التيارات الجارفة دون تمحيصٍ ولا تحقيق، أو يجمدون على موروثات مبتدعة دون تجلية ولا تدقيق، وحينما يضرب المثل في ذلك على نظرة كثيرٍ من المسلمين للسيرة العطرة فإنك واجدٌ العجب العجاب.
ففئاتٌ تغلو في الجناب المحمدي وترفعه إلى المقام الإلهي، وفئات تجفوا وتعرض، والميزان الشرعي في ذلك توجيهه صلى الله عليه وآله وسلم لأمته بقوله: {لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبدٌ فقولوا: عبد الله ورسوله } خرجه البخاري ومسلم من حديث عمر رضي الله عنه.. فهو عليه الصلاة والسلام ليس إلهاً فيعبد، ولا رباً فيقصد، وإنما هو رسول يطاع ويتبع.
من الناس من نظر إلى السيرة النبوية على أنها قصصٌ تورد، وروايات تسرد، دون متابعة واقتداء فلا تحرك قلوباً، ولا تستثير همماً.
وأبو القاسم محمدٌ صلى الله عليه وسلم فوق كونه عظيماً من عظماء التاريخ؛ فإن شرف النبوة وتاج الرسالة هو الذي يحتم له المحبة والاتباع، وإن صلة الأمة وارتباطها برسولها وحبيبها صلى الله عليه وسلم وسيرته العطرة ليس ارتباط أوقاتٍ ومناسبات، ولا حديث معجزاتٍ وذكريات، بل إنه ارتباطٌ وثيق في كل الظروف وجميع الشئون وأحوال الحياة إلى الممات.
وشخصيته صلى الله عليه وسلم ليست شخصية مغمورة في زوايا السير، ولا مطمورة في جنبات التاريخ، تروى قليلاً وتطوى كثيراً.. حاشاه عليه الصلاة والسلام فداه أبي وأمي.. بل إن ذكره يملأ الآفاق، والشهادة برسالته تدوي عبر المآذن والمنابر، وتنطلق عبر الحناجر والمنائر، والمسلم الذي لا يعيش الرسول صلى الله عليه وسلم في ضميره، ولا تتبعه بصيرته في علمه وعمله وتفكيره في كل لحظة من لحظاته.. لا يغني عنه أبداً التغني بسيرته، ولا صياغة النعوت في مدائحه، وليس هناك أغلى وأعلى من مدح ربه جلَّ وعلا له وثنائه عليه.
وما جنح بعض المسلمين إلى مثل هذا اللون في الإفصاح عن تعلقهم بنبيهم صلى الله عليه وسلم إلا يوم أن زهدوا في الثوابت واليقينيات، وانبهروا بالمظاهر والشكليات، وتركت نفوسهم الجد والعزمات، واستسلمت للتواني والدونيات، فالجهد الذي يتطلب العزائم هو: الاستمساك والاقتداء، فينهض المسلم الجاد إلى تقويم نفسه وإصلاح شأنه؛ حتى يحقق الاقتداء والاهتداء برسوله صلى الله عليه وسلم، وحتى يترجم تلك الدعاوى إلى واقعٍ عملي في كل شئونه.. في معاشه ومعاده، في حربه وسلمه، في علمه وعمله، في عباداته ومعاملاته.. وإن تحويل الإسلام إلى هزٍ للرءوس، وجمود على مظاهر وطقوس، يصاحب ذلك تعلقٌ بأذكارٍ وتسابيح، وترنمٌ بقصائد وتواشيح؛ لشيءٌ عجيب يحار العقل في قبوله!
والأدهى من ذلك أن تكون هذه الأمور معايير لصدق المحبة وعدمها، ومقاييس يُرمى كل من تركها واستبان عوارها بتنقصه لجناب الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم.. وتلك شنشنة معروفة من أخزم، فحب رسولنا صلى الله عليه وسلم يتغلغل في أعماق نفوسنا، ويتربع في سويداء قلوبنا، ولا يغيب حبه إلا من قلب أهل النفاق والزندقة، ونشهد الله الذي لا إله غيره أنه أحب إلينا من أنفسنا ووالدينا وأولادنا والناس أجمعين.. كيف لا ومحبة المصطفى صلى الله عليه وسلم دينٌ يدين لله بها كل من تشرف للإسلام؟! بل لا يستحق أحدٌ شرف الإيمان إلا بتحقيقها، يقول صلى الله عليه وسلم: {لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين } خرَّجه الشيخان من حديث أنس رضي الله عنه .
وعند البخاري من حديث عمر رضي الله عنه قال: {قلت: يا رسول الله! لأنت أحب إلي من كل شيءٍ إلا من نفسي. فقال: والذي نفسي بيده! حتى أكون أحب إليك من نفسك. فقال له عمر : فإنك الآن أحب إلي من نفسي، قال: الآن يا عمر }.......