الدكتور إبراهيم الفقي
الأحاسيس المنفلتة تكبّل الإدراك وتشوّه صورة العالم:
إن الأحاسيس تسبب النسيان أو ما يسمى " سكاتوما" وهي تعني إعطاء العقل أمراً مباشراً بوجود أو عدم وجود شيء، فقد يضع المرء مفاتيحه في مكان ما ثم يعود ليبحث عنها فلا يجدها، فيسأل شخصاً ما عنها فيفاجأ بأنها أمامه ولكنه لم يكن يراها. أو أن يبحث عن نظارته ويتساءل عنها ولا يعي أنه يرتديها، وما شابه ذلك كثير. فالأسكاتوما هي إعطاء العقل أمراً مباشراً بأن الفرد لا يرى شيئاً ما وبالتالي يكون الشيء أمامه وهو لا يبصره.
وتكمن خطورة " الاسكاتوما " في أن الإنسان قد يعطي للعقل أمراً مباشراً بأنه غير سعيد، ومن ثمّ يلغي له العقل كل شيء يتعلق بالسعادة حتى يشعر بالحزن، وذلك لأن العقل البشري لا يستطيع التركيز إلا على معلومة واحدة في وقت واحد، فحينما يعطي العقل أمراً مباشراً بخصوص موضوع معين فإنه يلغي ما سواه حتى يتمكن من التركيز على أمر واحد بدقّة.
الأحاسيس منبع الخوف بكل صوره
في كتابٍ اسمه "كل ما تحتاج على معرفته عن الخوف" يذكر المؤلف أن الإنسان حين يولد لا يعرف إلا صورتين من صور الخوف وتصل مع تقدم السن إلى 17000 نوع من الخوف المرضي. خوف من المصاعد، والطائرات وهي تصعد وتهبط، وخوف منها والإنسان بداخلها،وخوف من المستقبل، ومن المجهول، ومن الحشرات...
إن الأحاسيس هي منبع الخوف ومصدر كل أنواعه. فإذا عض كلب شخصاً ما مثلاً، فإنّ دماغه سيذكره بتلك الحادثة كلما رأى كلباً ويبدأ الجسم بإفراز الأدرينالين. وإذا كان هناك طفل يلعب بعنكبوت وكانت والدته تخشى العناكب ودخلت الغرفة ورأت ذلك فصرخت وارتسمت على وجهها ملامح الخوف وسارعت بقتل العنكبوت، فإن الطفل سيتعلم الخوف من العناكب وسيصرخ كلما رآها.
الأحاسيس منبع المشاكل والخوف المرضي بكل أصنافه ومجموعاته سواءٌ أكان خوفاً بسيطاً أو اجتماعياً أو مركباً.
تعلّم من الخوف
سخّر طاقة الاستنفار للبناء لا للتخريب
تسبب الأحاسيس ما يسمى استنفار "الهجوم أو الهروب fight or flight". فالإنسان قد منحه الله العقل القادر على تحليل الأمور والظواهر. وحينما كان الإنسان القديم يسمع وقعاً شديداً ويحس بالأرض تهتز تحت قدميه ثم يرى الوحوش قادمة نحوه لتلتهم أفراد العائلة تعلّم أن يهرب لينقذ حياته.
ومن ذلك نشأ مصطلح (forf) أي اهجم لتنقذ حياتك أو اهرب لتنقذ حياتك. وفي حالة الهجوم أو الهروب يفرز الجسم الأدرينالين مما يؤدي إلى ضخ الدم بقوة وسرعة في القلب والعضلات ويصبح الجسم في حالة الاستعداد القصوى وبه طاقة كبيرة تساعده على الهجوم أو الهرب حتى يستطيع الدفاع عن حياته.
حينما كان البطل العالمي محمد علي كلاي يتمرّن جرى مع مدربه خمسة أميال على الرمال، ولما طلب منه مدربه أن يجري ميلاً آخر قال له لا أستطيع! فألحّ عليه مدربه ولكنه أصر على الرفض فرمى المدرب بنفسه عليه وجذبه بشدة إلى الوراء وقال له ستجري خمسة أميال أخرى!
فثار كلاي وقال له: لم تفعل هذا معي؟
فرد عليه المدرب قائلاً: أردت أن أثيرك حتى تستطيع أن تستغل قواك الكامنة. حتى يفرز جسمك الأدرينالين ويضخه في عضلاتك فيعطيك القوة الدافعة، ولأنّ البطل يصنع ما لا يصنعه غيره. وأنت بطل!
يفرز الجسم الأدرينالين في حالتي الهجوم والهروب كي يصل إلى أقصى طاقته وقوته حتى يستطيع الإنسان أن ينقذ حياته، ولكن المشكلة أن بعض الأشخاص لا يستطيعون السيطرة على أحاسيسهم ومشاعرهم، وعندما يزاحمهم أحد بسيارته أو يختلف معهم في الرأي تثور مشاعرهم وأحاسيسهم على حد بعيد وتفرز أجسامهم نفس كمية الأدرينالين التي تفرزها في حالة الدفاع عن النفس وإنقاذ الحياة. والعقل يفكر بنفس الطريقة أيضاً. فيجب على الفرد أن يدرك ما يعتريه من مشاعر وأحاسيس وأن يستطيع تقدير الموقف الذي يواجهه.
إنّ هذا الإدراك والتقدير يجعل الفرد قادراً على تعديل سلوكه لأنه بمجرد أن يشتعل العقل العاطفي ويبدأ الفرد في الدخول في مرحلة الهجوم أو الهروب يصبح غير قادر على التحكّم في سلوكياته وتصرّفاته.
ليس الشديد بالصرعة، إنّما الشديد من يملك نفسه عند الغضب
يقول كثير من الناس: إنني حين أغضب لا أعي ماذا افعل، وأتصرّف في الأمور بتهوّر ودون تعقّل" وكثيراً ما يفقد الناس حقوقهم ويرتكبون الحماقات بسبب سرعة انفعالهم. ومن هنا تنبع أهمية التحكم بالذات وهذا الأمر كثيراً ما أذكره في كتاباتي واردّده على مسامع الناس عبر القنوات الفضائية.
إن التحكم بالذات يعد من أهم أسس التنمية البشرية ثم يليه فن التواصل مع الآخرين، ثم رسم الأهداف وكيفية تحقيقها، واستكشاف التحديات وكيفية مواجهتها، ثم عمل المخ ووظائفه وكيف يقوم بالعمليات العقلية.
هذه الموضوعات يتم تدريسها للناس ضمن فنون التنمية البشرية حتى يتم إعداد المرء ليكون مهندساً أو طبيباً أو معلّماً بارعاً يستطيع فهم لغة الحياة والتعامل معها. وإلاّ فقد نجد كثيراً من الناس يعجزون عن استغلال قدراتهم والتحكم في أحاسيسهم ومشاعرهم رغم حصولهم على أعلى الدرجات والمناصب العلمية.
وقد يطرد الفرد من وظيفته رغم كفاءته ومهارته بسبب عدم قدرته على التحكم في ذاته والسيطرة على أحاسيسه، فتراه يثير المشاكل لأتفه الأسباب أو يتطاول ويخطئ في حق رؤسائه في العمل أو نحو ذلك.
إن كثيراً من الناس مع فوران أحاسيسهم واشتعالها يصبحون شديدي العدوانية ويفقدون السيطرة على أنفسهم ومن ثم يتصرّفون بحمق وعنف فيسبّبون المشاكل ويثيرون المتاعب لأنفسهم ولغيرهم وقد تنفصم علاقاتهم بكثير من أصدقائهم وذويهم. ومصداق ذلك قوله تعالى: (ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم)
يجب على المرء حينما يشعر بأن الأحاسيس بدأت في الاشتعال وأنّه يفكر تفكيراً سلبياً أن يلتزم بالإدراك والملاحظة. يستطيع الإنسان بل وينبغي عليه أن يتدرّب على سلوك التحكم في الذات حتى يصير عادةً له يفعلها تلقائياً.